«الأنذال» قصة قصيرة للكاتبة هبة الله محمود

هبة الله محمود
هبة الله محمود

 أمسكَت يدّ صغيرِها، وضعَت سبابتَه علىٰ الزنادِ، ثمّ صوّبتها نحو شجرةِ الأكاسيا.

دوىٰ صوتُ الطلقةِ وتبِعَه صرخةٌ قويةٌ من فمِ الصغيرِ، سقطَ العصفورُ علىٰ الأرضِ كحَجرٍ صغيرٍ، غادرَ صوتُ الشقشقةِ وحلً بدلًا منه صوتُ رفرفةِ الأجنحةِ المُسرعةِ.

لم يتبَع الصبي صرختَه بأيّ صوتٍ لدرجةٍ شعرَت معها أنّ الطلقةَ قد أصابتَه هو، إلا أنّ خفقانَ صدره وتهدّجَ أنفاسُه نفىٰ ذلكَ، لم تتحرَك قدَماها إنشًا واحدًا، مُنفرِجتانِ مُثبتَتانِ علىٰ الأرضِ في البِنطالِ الأسودِ، كعارِضةِ شبكةِ ملعب كرةِ القدمِ، أمرَت الصبي بإحضارِ العصفورِ، تحرّكَ بقدَميه المُرتعِشتينِ، بينما تسرّبَ بولُه من بِنطالِه.

أمسكَ العصفورَ بيدَيه المُرتعشَتينِ وتوجَه لأمِّه الّتي أشارَت له بالدخولِ إلىِ القصرِ.

رفعَت رأسَها لترمِقَني في النافذةِ، وَجّهَت بندقيتَها نحوي، ارتَعبتُ، وقبلَ أن أهربَ، خفَضَت بندقيتَها ثمّ أطلقَت ضحكةً عاليةً .

نزلتُ علىٰ الأرضِ بجوارِ الشبّاكِ، حاولتُ التِقاطَ أنفاسي، كساكِنٍ جديدٍ وهذا صباحَه الأول في هذه الشقةِ،  فقد شعرتُ بغُرابٍ يحومُ حولَ رأسي، ما هذه المرأةُ؟!

هل هذا ابنها، أمْ أنها اختطَفته من أهلِه؟

وماذا ستفعلُ بالعصفورِ، ستُحنِطَه أم ستأكُلَه حيًا؟

تخيّلتُ القصرَ من الداخِلِ، يتوسطُ حائطَ البهو الرئيسي لوحةٌ للشيطانِ مُمسِكًا صولجانَه، يحدّقُ بعينِه الحمراءِ في الداخلِ والخارجِ، وعلىٰ المائدةِ ساطورٌ كبيرٌ، وبرطَماناتٌ زجاجيةٌ بها قطعٌ بشريةٌ؛ عينٌ، لُسانٌ، وربّما إصبَعٌ.

وَجّهَت بندقيتَها إليّ، هذه رسالةٌ مفادُها أنّني التالي، أوقَفَ خيالاتي طرقٌ شديدٌ علىٰ البابِ، توَجّهتُ مُسرِعًا لأفتحَ، فكانت هي؛ لم تكُن خيالاتٍ إذَن، ارتكَزَت بيدِها اليُسرىٰ علىٰ بُندقيتِها، واليُمنىٰ علىٰ البابِ، جمالُ وَجهَها الطاغي الّذي لم أتبينَه من النافذةِ جَعلني أشعرُ لوَهلةٍ أنّها إمرأةٌ أخرىٰ، لو أنّها غيّرَت هذا القميصَ الأبيضَ والبِنطالَ الأسودَ ونَحَّتْ هذه البندقيةَ لدَعوتُها لِليلةٍ في فِراشي، ليلةٌ تُتوِجُ فيها أنوثَتَها علىٰ عرشِ رُجولَتي.

لم أستَطِع منعَ نفسي من النظرِ لفتحةِ قميصِها، ضَبطَت عيني علىٰ صدرِها؛ فأمسَكَت بوَجهي ورَفعَته لأعلىٰ، ثمّ نظرَت لي بحِدَةٍ، وقالت:

- لا تتلَصَصَ مرّةً أخرىٰ علىٰ حديقَتي.

لم أتلَصَص، ولكُني.....

لم أكمِل كلامي حتىٰ قاطَعَتني:

- أنتَّ مَدعو للعَشاءِ في القصرِ اللّيلةَ، لا تتأخَرَ عن الثامِنةِ ثانيةً واحِدةً..

أومأتُ برأسي بالموافقةِ.

دعوةُ عشاءٍ!

يبدو أنّها من النوعِ السادي، وقد استَنفرَتها رائحةُ جُبني واستِثارَتي.

خرجَت، وترَكَتني مع شبحِ أنوثتِها، أمَنّي نفسي بمُضاجَعتِه.

شابٌ مِثلي لم تثمِر كلُّ كلِماتِ الحبِّ والغزَلِ التى ألِفَها، إلا عن قُبلاتٍ مُتفرقةٍ في بئرِ السُلمِ، ولمَساتٍ مُتوجسة  فوقَ الملابسِ، وشهوةٍ انقَضَت لمرّةٍ واحِدةٍ؛

دقائقٌ مَسروقةٌ، دفَعتُ ثمنَها ليالٍ طويلةٍ من النحيبِ والبُكاءِ علىٰ الشرَفِ المُهدَرِ، والعُذريةِ الكاذبةِ، ظنّت أنّها نصَبَت لي فخًا للزواجِ حينَ تركَت لي جسدَها، ولكنّني ترَكتُ لها البلدَةَ ورحَلتُ.

في الثامنةِ تمامًا كنتُ أمامَ بابِ القصرِ، فتحَ لي الخادمُ ودَعاني للدخولِ، في مُنتصفِ حائطِ البهو لم أجِدَ صورةً للشيطانِ، بل كانت صورةً لها تسدّلَ فيها شعرُها الكُستنائي، ترتدي فُستانًا أحمرَ، عيناها الزَرقاوانِ صافيتانِ كسَماءِ يومٍ مُشمِسٍ، بجوارِها شابٌ فارعُ الطولِ، وسيمٌ وبينَهما الصَبي الّذي رأيتُه بالحديقةِ.

لم يطُل انتِظاري، فبمجردِ جُلوسي، دخلَ عليّ رجُلٌ بكُرسيٍ مُتحرّكٍ، كانَ هو الوسيمُ الّذي بالصورةِ، زوجُها!

انقَضَّت أحلامي فوقَ رأسي، كعَطشانٍ وصلَ إلىٰ السرابِ. 

رحَبَ بي، لم أرُدُ، ألجَمَتني الصدمةُ، ظنّ أنّ ما افزَعَني هو وجودُه علىٰ الكُرسي المُتحركِ، فبدأ يسرِدُ لي قصّتَه:

- أعلَمُ أنّكَ تتعَجبُ، ما الّذي أقعدَ شابًا مِثلي علىٰ هذا الكُرسي، خاصةً لو كانَ سليمًا من قبلُ، ولم تكُن علّةً ولِدَ بها.

هي صديقةُ زَوجَتي، وزوجةُ صَديقي أيضًا، أوقَعَت بي، ذهَبتُ لها مرّاتٍ ومرّاتٍ، كُلّما سمَحَت الظروفُ.

اكتَشفَ صديقي خيانَتي، وقرّرَ أن ينتَقِمَ، حضرَ إلىٰ هُنا ومعَه حارِسُه الشَخصي الّذي صوَبَ مُسدَسَه إلىٰ رأسي، قيّدَ زوجتي في السريرِ، واغتَصَبها أمامي، لم أحَرِك ساكُنًا.

وبعد أن انتَهي فكَّ قيدَ زَوجتي، طَلبَت من الحارسِ المُسدسَ، توقعتُ أن تُنهي حياتَها، ولكنّها أفرَغَت ذخيرةَ المُسدسِ في قَدمَيَّ فتوَجَبَ بترَهُما..

سَمعتُه في صمتٍ، ولكن كلامَه أنهىٰ رغبتي في الطعامِ، وفيها أيضًا، همَمتُ بالخروجِ، لكنها أتَت، وأخذَتني للمائدةِ:

- أينَ ستذهَبَ؟

لقد أعدَدتُ العَشاءَ بنفسي لكَ خصيصًا..

رائحةُ الطعامِ فعلاً شَهيةٌ.

- ليسَت أشهىِ مِن رائحةِ الأنذالِ لي، يا عَزيزي!

2 attachments • Scanned by Gmail